المقصود من خلافة الإنسان على الأرض
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المـــوضـــــــوع
المقصود من خلافة الإنسان على الأرض
من قوله تعالى : وإذ قال ربّكَ للملائكة إنّى جاعلٌ فى الأرض خليفة ... "
من سورة البقرة كتبه : بهاء الدين عبد الفتاح عبدالله الجوهرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُقدّمة :
إنّ الله خلق الإنسانّ وله تكليفات محددة سيُحاسَبُ عليها الإنسان ، وقد اختلف العلماء حول اغرض الأسمى والرئيسى من خلق البشر فى هذا الكون ، فبعضُهم قال : إنّ الهدف هو تعمير الكون ، والآخر قال : المُحافظة على النوع . والبعض قال أنّ الهدف الأسمى هو عبادة الله سبْحانه وتعالى .
والاختلاف فى تحديد الأولويات المرادة من العبادة حسب أولويات يرضها المولى تبارك وتعالى من بعد التوحيد .
وفى هذا المبحث نحاول أن نقترب من مُراد العبادة كما يريدها المولى تبارك وتعالى .
والسؤال الذى يطرح نفسَه بإلحاح:
1. في أىْ شىء استخلفنا الله - عزّ وجل - فى الأرض ؟
2. هل استخلفنا فى تدبيرأمرها وما عليها مثلا ؟ .
3. فإذا كان هذا هو المقصود فأين المُدبر للأمور كلها ؟ !!
4. وما أولى الأولويات التى يجب علينا تفعيلها ابتغاء عبادة الله ؟
وسوف نستدل على أنّ المقصود من العبادة كما يُريدها المولى تبارك وتعالى ألا وهى - كما أراها –هى إقامة العدل بعد التوحيد مع المُحافظة على الاعتدال .
ولذلك أعطانا الله المُقومات التى تكفل لنا تلك العبادة وهى ( أولُها العقل للتمييز، السمع ، البصر )
إنّ سيدينا داوود وسليمان حققا غايتهما من خلقهما وهى إقامة شرعة الله { العدل } فى أرضه ( مملكته) وهى أسمى الغايات على الإطلاق من خلق الإنسان .
وإقامة العدل تـُحقق خلافة الإنسان فى الأرض وعُبُوديته لله قال سبحانه وتعالى " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)
وتفسير معنى الخلافة كما يُريدها المولى تبارك وتعالى جاء فى سور " ص "
قال تعالى" يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26)
وندلل على معنى الخلافة من وجهٍ آخر كما جاء فى قوله المولى تبارك وتعالى{ هى وضع الأمر فى نصابه } بدليل قول الملائكة : " ...قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) (البقرة: من الآية30)
فمن العدل أنْ نضع الأمر فى نصابه ، ومن الظلم أنْ نضع الأمر فى غير نصابه
فمن الافساد وهو مننتيجة الظلم عدم وضع الأمر فى نصابه ومكانه ،فلما سُئِلَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
" متى الساعة قال : إذا وِّسِِّد ( أى أُسند ) الأمرُ لغير أهله فانتظر الساعة "
ونستعرض بعضـًا من أوجه الإفساد - والذى هو نتيجة مباشرة للظلم - فى الأرض كما ذكرها القرآن :
ý تقطيع الأرحام إفساد قال تعالى : " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ {أى توليتم الحكم }أَنْ تُفْسِدُوا{ بالجور والظلم واتباع الهوى } فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ " (محمد:22)
ý وإهلا ك الحرث والنسل إفساد فقال تعالى : " وَإِذَا تَوَلَّى ( أى حكمتم ) سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205)
ý عدم وضع الأمر فى نصابه والجور فى الحُكم وعدم العدل إفسادٌ فى الأرض فقال تعالى : " وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ " (الأنعام:136)
ý وقتل النفس بغير حق إفساد فى الأرض فقد قال تعالى : " مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ "(المائدة:32)
ý ومَن لمْ يحكُم بالعدل الذى أقرّه المولى تبارك وتعالى فى كل الشرائع التى أنزلها الله من زابوره وتوراته وإنجيله وقرآنه ؛ لهو عينُ الإ فسادِ فى الأرض فقد قال تعالى : " إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ44 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 45 وقال تعالى: " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة:47) ( كتبنا = فرضنا فقد فرض الله سُبحانه وتعالى العدل كما تبينُه الآية )
ý والسرقة إفسادٌ فى الأرض فقد قال تعالى : " قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ " (يوسف:73)
ý وشرب الخمر والميسر إفساد فقال تعالى : " إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " (المائدة:91)
- ý والتعامل بالرّبا إفساد ٌفى الأرض قال تعالى : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275)
ý وقال فى شأن من لم ينتهِ عن أكل الربا : " فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ " (البقرة:279)
ý وهاتان الآيتان جامعتان لأشد أنواع ِالفسادِ و الظلم ِوهى الكبائر قال تعالى : " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 151 وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 152 " الأنعام
ý ممّا تقدم من آيات تدل على أنّ الجور وتعدى الحدود هوعين الظلم وعدم العدل .
ý ومن هنا كان عِقاب المفسدين فى الأرضِ شديدًا فالجزاء من جنس العمل قال تعالى : " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)
وكذلك الإسراف من الكبائر وهو مظهر من مظاهر الفساد ؛ فإذا كان الإسرافُ فى الحفاظ على ضرورات الحياة والعبادات محظور بل ممقوت ويجلب ووجوب العِقاب . فما بالُنا بالإسراف فى تحقيق الرغبات ؟ .
ý فقد قال تعالى : " .... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " (لأعراف 31)
الأكل والشرب ضرورة ورغم هذا نهانا عن الإسراف فيهما ، فما حكم من أسرف فى متعته ؟
ý وقوله تعالى : " ..... وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ "(الأنعام141)
الزكاة عبادة ورغم هذا نهى عن الإسراف عند إخراجها .
وقد فهـِمتَ الملائكة ُمعنى الخلافة للإنسان فهمًا دقيقـًأ صحيحًا كما هى فى مُرادِ المولى تبارك وتعالى لأنّها قد علِمت عبادة الجن من قبل فكانوا مفسدين رغم أنّهم خلقوا لطاعة الله قال تعالى: { وما خَلَقتُ الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون }
وهذا ما حققاه المَلِكان العادلان داوود ـ من قبل ـ ثـّمّ سليمان ـ عليهما السلام ـ من بعده .
واقرأ قوله تعالى : " يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26) وهذا العتاب من المولى تبارك وتعالى وتذكيـّره لسيدنا داوود بمهمّته على الأرض ( مملكته وليس عموم الأرض )
وإليك طرفـًا من القصة لنتذاكروقائعها قال تعالى : " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ21 إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ 22 إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ 23 قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ 24 " صّ
فمن المُحتمل
أولا: فمن المُحتمَل والذى قد يتبادر للذهن أن أخاه ( الذى عزّه فى الخطاب )أرادَ بهذه المقولة أن يرفع عنه حرج انشغاله بنعجةٍ واحدة ؛ فيتكفّلَ هو بها ولن تـُكلفه شيئًا ‘ فهى سوف تأكلُ مع نعاجه وترعى معها ‘ وينطلق هو ليسعى ويُوسِع على نفسه بحرية حركته ووفرة طاقته ؛ وبذلك يكون أخوه أسدى إليه معروفـًا ولم يظلمه كما ظنّ وفهم هو .
ثانيًا : تذكرة المولى تبارك وتعالى سيدنا داوود بغاية خلقه وبمهمته فى الأرض ( مملكته ) .
وبعدالتذكرة لمُهمته الرئيسة – إقامة العدل - علم أنه وقع فى المحظوروالخطأ وهو
· استماعه لطرف واحد من طرفىْ الشكوى( الشاكى ) دون الاستماع لدفاع الطرف الثانى ( المشكو فى حقه ) .
· بل - والأدهى - أصدر حكمَهُ فى على المشكو فى حقه دون الاستماع لدفاع الطرف الثانى
فلما تنبه لخطأه ، استغفرَ ربـّه وأناب إليه ، فغفر الله له ذلك ، وهذه سُنـَة الله من لدن أبينا آدم وحتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة ، ألاوهى من عصى وظلم ثم استغفر وتاب وبدّل من بعد ظلمه حُسنا ؛ تاب الله عليه وبدله من بعد خوفه أمنا .
ومن هذا التعليق يرسخ معنى الخلافة والغاية السامية من خلق الإنسان ( كما أراها ) والقرآن ملىء بالكثير من الأمثلة نعجز عن حصرها هُنا .
فالعدل دُعامَة رئيسة من دعائم نشوء الممالك والدول ِواستمراريتِها والظلمُ من أقوى أسباب ِضعفِها وسقوطِها - أعاننا الله وفقنا إلى إقامة العدل - وأعاذنا الله وإيّاكم من الظلم - .
ولذلك ورث سيدُنا سُليمانُ سيدَنا داوودَ فى كيفية الحُكم ونظامه – وهى اقامة العدل - لأنّ :
· الاستعداد الفطرى موجود ( لأنّ سيدنا داود رأى من ابنه راجحة العقل وتحريه العدل ) فى قوله تعالى : " وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين 78 فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ 79 " الانبياء فهذه الآية دالة على أنّ سيدَنا داوود اختبر سيدما سُليمان ولذلك ورّثـَه الحُكم
وفى هذه الآية يتأكد لنا ظهور النجابة على سيدنا سُليمان ، وبسببها ورث أباه فى الحكم
· والعلم موجود " فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (النمل:4 )
· وقال تعالى : "..وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ." الأنبياء ( من الآية 79)
وهُنا يبرُز سؤالا آخر هل هذا الفضل من الله لأنبيائه فقط ؟
فعندما نتدارس ونتذاكر قصة سيدِنا سُليمان مثلا أو غيره من الأنبياء ، يتقولُ البعض - متعللين - وهم ليسوا بالقليل إنّ هؤلاء أنبياء وهذه خصوصية من الله لأنبيائه فقط ، ولايستطيع بشرٌ مهما أوتى من (الإيمان والعدل والعلم) أنْ ينال ما نال سيدُنا سليمان أو سيدنا يوسف أو سيدنا محمّد أوغيرهم من الأنبياء والمرسلين – عليهم جميعًا الصلاة والسلام –
· ( وأعنى فى نزول الفضل من الله على من يشاء من عباده وليس عين الفضل الذى أتوْه هم كما هو -- بمعنى لن ينال أحد مُلك كملك سيدنا سليمان )
· كما أعنى أنّه ْمن يملك إربَه أو تحْسُنَ عقيدته ويتقى الله ويُقيمَ العدل - كما ملك هؤلاء إربَهم رغم قدرتهم على المخالفة والمعصية فسينال من الله الفضل العظيم والخير الوفير .
ومن هنا كان ذكر القصص لأمثال ذى القرنين ‘ وفتية الكهف ‘ورجل المدينة الذى جاء يسعى ‘والذى مرّ على قريةٍ فقال أنّى يُحىّ هذه الله بعد موتها ؟ فهؤلاء ليسوا بالرسل ولا حتى من الأنبياء ورغم هذا أنعم الله عليه لأنهم عبدوا الله مُخلصين له الدين .
· فقد قال تعالى لأمثال هؤلاء : " بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ " (البقرة:90) )
فلله ملك السموات والأرض يُؤتى فضله لمن يشاء من عباده
· ومِصداقـًا لقوله تعالى : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً " (النساء:54)
· ومصداقـًا لقوله تعالى : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا ( أى عن عبادته جلّ شأنُه ) فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً " (النساء173)
ومن هُنا جاء ذكر أمثال هؤلاء ليُبشرَنا الله بفضله لمن طلب هذا الفضل وعمِل من أجل الحصول عليه مُخلِصـًا النيةَ لله ؛ ووافق مشيئة الله تعالى إذا علِمَ فيهم خيرًا .
الموضوع
وذو القرنين رجلٌ أنعم الله عليه فآتاه من أسباب كلّ شىء( علـّمه أو أعلـَمَهُ الأسباب) فاتخذ الأسباب ولمّـَا اتبع الأسباب وفقه الله للوصول إلى مغر ِب الشمس ( ومغرب الشمس – والله أعلم – كناية عن الجزء الغربى من الأرض والدليل قوله تعالى : " حتى إذا بلغ مَطلِع الشمس " فى المقابل لمغرب الشمس .
فوجد عندها- أى مغرب الشمس - قومأ فولاه الله عليهم - لأنه أعلمهم بعلم أسباب كل شىء – ويُسجل المولى تبارك وتعالى هذا فى قوله : وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً " (الكهف: من الآية86) وفى هذه الآية يُخيّره المولى تبارك وتعالى فى اختيار أسلوب الحُكـْم ( وهذا ابتلاء فى حدّ ذاته ) إمّا أنْ يختار (أسلوب الظلم والقهر واستغلال السلطات استغلالا سيئًا ) أو(أسلوب العدل وتسير الأمور على قانونٍ لازيغ فيه ولامحاباة ولااستثناء كقوانين الشمس والقمر وسائر المخلوقات ) فردّ الملك الجديد الحديث ردًا ينمّ عن إيمانٍه بالله وفهمًا سليمًا دقيقا لرسالتة أمام المولى تبارك وتعالى ، واضطلاعًا بمهمته التى ابتلاه الله بها ألا وهى إقامة العدل فى قوله كما أخبرنا به ربّ العِزّة : "قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً 87 وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً88 " الكهف .
وفى هذا لرد الإيمانى تظهر دلائل الإيمان بالله الذى ينمّ عن رغبته فى إقامة العدل كما يريده الله - عزّ وجلّ - فيما ملّكه الله عليه، فأقام العدل بين الناس واجتاز ابتلاءه بنجاح بدليل
1 – زاده علما ووفقه الله لإتباع الأسباب .
2 – زاد مُلكه فبلغ مَطَلِعَ الشمس .
ولاحظ معى استخدام حرف العطف { ثـُمّ } الذى يُفيد التراخى بين الحدثين فقال تعالى" ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً "(الكهف:89
أمّا فى أول القصة قال تعالى : " فَأَتْبَعَ سَبَباً " (الكهف:85) والفاء للتعقيب والسرعة بين تعلمه علم الأسباب ، واتخاذه الأسباب .
فأقام العدل فى أهل المشرق ، كما عدل فى أهل المغرب ؛ فزاده الله علمًا بكيفية صهر الحديد والنحاس وإنشاء السدود وما يتطلبه من مصانع ، وإنشاءات معمارية خاصة ، وآلات للمصانع وغيرها .
وكل هذه العلوم سخرها الله له عن طريق فرق من العلماء يأتمرون بأمره فيفعلون ما يُؤمرون به ولايقوم به بشخصه . ( فالعلماء من الأسباب التى استغلها واتبعها وأحسن توظيفها فى منفعة وخير العباد ) .
ويسجل المولى تبارك وتعالى هذه القصة للعبرة والعظة فيقول جلّ شأنُه
" وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً 83إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً 84 فَأَتْبَعَ سَبَباً 85 حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً 86 قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً 87 وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً 88 ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً 89 حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً90 كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً 91 ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً 92 حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً 93 قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً 94 قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً 95 آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً 96 فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً 97 " (الكهف) )
وهذا مِصْداقـًا لقوله تعالى : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ " (ابراهيم:7)
والخلاصة :
1. توحيد الله هو أولى وأسمى الأهداف التى خلقنا الله من أجلها .
2. الفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء وليس هذا لكرامة فقط وإنما هوابتلاء واختبار .
3. العدل أساس الملك .
4. استمرارية العمل على إقامة العدل( وهو من الشكر ) تُدعم المُلك وتُزيده وتقويه . لقوله تعالى " ..لئن شكرتم لأزيدنكم "
5. الشكر يكون من العبد على صورتين :
الأولى : العمل بما أنعم الله عليه من علم أو مهنة أو حرفة على الوجه الذى يرضاه الله منه .
قال تعالى : " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " (سـبأ:13)
الثانية : نسبة الفضل - الذى أنعم الله به عليه - لله وحده لاشريك له .
قال تعالى : " فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ " (النمل:19) لقد تذكر أنّ الفضل من الله لينظر أيعمل فيه بما يُرضيه أم لا ؟
وآية سورة النمل شاملة للمعنيين معنى { نسبة الفضل لله + العمل بالنعمة بما يُرضى الله }
6. بالإيمان والعلم يرفع الله بهما أهلهما ويجعلهم أئمة ، وبفضل العلم تخضع الأشياء كلها حتى الملائكة .
7. وجوب اتباع الأسباب وهذا أصل من أصول الدين . لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " لوأنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتعودُ بطانًا " إلى جانب الآيات التى هى من سورة الكهف
8. عدم الاغترار بفضل الله والطغيان به . لاعتقاد البعض أنّ هذا لكرامة أولا حساب عليها أوغير ذلك .
قال تعالى : " فأمّا الإنسانُ إذا ما ابتلاه ربُّه فأكرمه ونعّمَه فيقولُ ربّ أكرمَنِ ِِ ، وأمّا ما ابتلاه فَـقَدَرَ عليه رِزْقـَهُ فيقول ربّ أهانٍ ، كلا ..... " الفجر
9. أنّ كلمة ( وجدها ) ـ أى الشمس ـ فى قوله تعالى { وجدها تغرب فى عينٍ حمئة } تدل على اعتقاد ه الشخصى الظنى ) وليس يقينًا وعلمًا أكيدًا فظن من خلال رؤيته الشخصية البحتة أنّ الشمس تنزل فى { عين حمئة } أى اعتقد أنها تغربُ فى بحرٍ كعين الماء التى تغلى لأنّه هو الذى وجدها ( أى فى نفسه هو ) فهذا هو اعتقاده هو ، وليس قول المولى تبارك وتعالى ( وهو قولٌ من الله على سبيل الحكاية وإخراج ما فى نفسه ) ليس إلاّ .
10
الدنيا للمؤمن والكافر ( لمن أخذ بالأسباب منهما ) أمّ الآخرة فهى للمؤمنين وليس للكافرين فيها نصيبٌ .
اللهمّ اجعلنا ذكّارين شكـّارين وزدْنا ولا تـُنقصْنا
للتعليق والمراسلة bahaaelgohary@yahoo.com
تعليقات